الوضع السوداني . . . عبثية المشهد
دخلت الأزمة السودانية سنتها الثالثة، السودان الذي لم يخرج من متاهة الحروب والنزاعات منذ عقود طويلة، وإن تنوعت الأهداف واختلفت الشخوص، فإن المصالح وقطافها بقيت حصرا على الأطراف الخارجيّة المُحرّكة لمجموعاتها المسلحة على الميدان، والتي لا تعدو أن تكون ميليشيات مرتزقة لا مبدأ لهم ولا هدف إلّا تحقيق مصالح السخي الأكبر من وراء ستار
وذلك في مفارقة جد غبيّة، أن يترك أهل السودان بلدهم غنيمة للخارج، في حين أنّ السودان كان وليزال البلد الذي يمكن أن يُحقّق كلّ المُعجزات التي تعجز عنها حتّى الدول المُتصارعة عليه، بلد غنيّ جدّا بالثروات المنجمية والطاقية وموارد الذهب والحجارة النفيسة، أرض شاسعة خصبة يُمكنها تحقيق الاكتفاء الغذائي له وللبلدان المُجاورة، يد عاملة شابة يمكنها إنجاح استثمارات صناعية وخدماتيّة مًوجهّة للداخل والخارج




لكن هذه اليد العاملة شُتّتت وضُيّعت في أتون صراعات غير ذات جدوى وأرض باتت قاحلة لا زرع فيها، مجاعات وجفاف، الدماء البشرية أصبحت أرخص من رغيف خبز، جُثث مُتناثرة في الشوارع وانتشار للكراهية ودعوات الانتقام والانتقام المُضاد
حرب تراجيدية ككلّ حرب، لكن الحرب السودانية ذات مأساة أكبر، حيث تكاد تكون الحرب الوحيدة التي لا ينفك أهل البلد الواحد من الاقتتال وإزهاق الأرواح والاغتصاب وانتهاك الحرمات والسعي حثيثا لمحو أي مقوّم لدولة يمكنها الاستمرار واكتساب الاعتبار التواصلي، تلك الحرب الوحيدة التي لا هدف للمقاتلين فيها حرفيّا، لا مبدأ ولا أسباب تاريخية أو اقتصادية أو دينية ولا حتى أخلاقية، جرائم حرب يومية باتت بتنوُّع رهيب وابتكار الجديد منها في سبيل إرضاء صاحب التعليمات الخارجي وفُتات أموال هي في الأصل من حصاد بلده هو؟
بتنا في وقت لم يعد التدخل في الشؤون الداخلية لبلد آخر مُخجل أو يستدعي الإخفاء، بل نرى التسابق للإعلان عن هذا التدخل لضمان أسبقيّة السيطرة وضمان معقد مريح في مفاوضات الصالونات مع باقي المتداخلين، اليد الخليجية المُستجدّة باتت تطال أكثر من منطقة في العالم وتزاحم اللاعبين الكلاسيكيين، وذلك برضاء أمريكي وأوروبي وامتعاض روسي صيني، لكن لقوة الأموال المُتدفقة أثرها دون ريب؟
رغم تعدُّد العصابات المُسلحة التي تُقاتل بالنيابة وتحت الطلب، فإن المجتمع الدولي يكاد يحصر المعركة ما بين قوات الدعم السريع بقيادة « حميدتي » وقوات الجيش بقيادة « البرهان »، وهما من بيادق العالم الثالث المُستخدمين كرؤوس حربة في مُخطّط تدمير أوطانهم، لما هذه الحرب؟ لماذا يتصارعان؟ أ من أجل الحكم؟ الإجابة طبعا لا، وذاك في نقطتين، الأولى أنّهما كانا يقتسمان فعليا، ويحكمان دون أن يحدث تداخل في الصلاحيات أو مناطق السيطرة، ثانيا أنّه لا فائدة من الإنفراد بالحكم أو التشارك فيه طالما أن لا حكم ذاتي سيادي فعلي، فلن يكون أحدهما أكثر أهمّية من مُجرد موظف في إحدى مكاتب وزارة خارجية لدولة أوروبية مُكلّف بملف « شؤون المُستعمرات »
هل الهدف السرقة؟ لا يمكن أن يكون ذاك أيضا، حيث النهب مُستمر سواء بالقانون أو بالحرب، والأموال مُستمرة في التدفق للحسابات البنكية في سويسرا وأمريكيا… هل الهدف ديني تاريخي أم لا شيء من ذلك؟ وحتى المجازر التي ارتُكبت على السكان بما يقارب التطهير العرقي لم يكن لها أي سبب سابق أو مُبرّر انتقامي
لذلك هي حرب عبثية، حرص زعماء الصراع الحقيقيين على إخفاء صيتها وتجنّب ظهورها على نشرات الأخبار، مع إزدهار تجارة السلاح وتجربتها على أهداف حيّة، يُمعنون في إغراق البلد وسط إشكاليات لامتناهية، بات معها المواطن السوداني المسكين يُفضّل الموت على حياة يفتقد فيها للغذاء ومهدد في كل لحظة بالقتل وسرقة الأعضاء أو الاغتصاب مع الخطف لصالح شبكات الدعارة العالمية؟
بلد يُدمّره أبناؤه بأبشع الأشكال وأفظع الطُرق لزيادة مصالح أعدائه، عبثيّة طبّع معها العقل الإفريقي وليست ببعيدة عن دول الجوار على الحدود؟
حاليا، وسط كل هذه الفوضى العارمة، ليست هناك جهة تمثّل الشعب السوداني، سواء كانت هذه الجهة عسكرية أو سياسية، حتى القوات المسلحة السودانية وممثلها في السلطة باتت مجموعة تأتمر بأوامر الخارج دون مراعاة أو اعتبار للمصلحة الوطنية؟
على أنه وسط المُتغيّرات المُتسارعة في المنطقة ومنها القرن الإفريقي، والمواجهة المُرتقبة ما بين مصر وأثيوبيا، فإن السودان بإمكانه الاستفادة إيجابيا من ذلك شرط أن يستعد الآن لذلك ويستعيد بلده الضائع، لذلك وجب تفعيل وقف فوري لإطلاق النار يكون شامل ومتواصل، فرض الأمن العام وإعلان الأمان للجميع، محاسبة مجرمي الحرب وتحييدهم عن المشهد، إقصاء كل الأسماء التي كان لها دور صغير أو كبير في الأزمة واختيار أشخاص بصفة براغماتية وبناءً على حسن الكفاءة والتموضع، حوار شامل غير مُطوّل مع ضمان تنفيذ مخرجاته، إلغاء كل المجموعات المسلحة وفرض إدارة واحدة عليها، التركيز على العدالة والتنمية خاصة في الفلاحة والصناعة، رفض أي تدخل خارجي إلا في الدعم دون مضرّة أو في شكل استثمارات اقتصادية غير مرتبط بأجندات سياسية أو هوياتيّة؟
مع كل ذلك … لعلّ الأمر يستقيم
بقلم ياسين بوزلفة